باور بريس

عبد الفتاح موسي يكتب: بعد الأربعين

باور بريس

 

بعد سن الأربعين، ودون سابق إنذار، تدخل مرحلة جديدة تمامًا في حياتك، لا تشبه ما قبلها في شيء.
فجأة، تجد نفسك تتبدّل… تتغيّر أولوياتك، تتبدّد ضوضاءك القديمة، وتظهر فيك عادات لم تكن موجودة من قبل.
بعضها خرج للنور بعد غياب، وبعضها رحل إلى الأبد، وبعضها عاد أقوى وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة.
لا تدري بالضبط ماذا حدث، لكنك تشعر أن بداخلك شيئًا استيقظ، وكأنك ولدت من جديد لكن بروحٍ أكثر هدوءًا ووعيًا.

أول ما يتبدّل فيك أنك تبدأ الاعتماد على نفسك أكثر من أي وقتٍ مضى.
لم تعد تندفع في الحديث أو تشارك مشاكلك كما كنت تفعل في الماضي.
ربما لأنك تكلمت كثيرًا، أو لأنك أدركت أخيرًا أن الكلام لا يغيّر شيئًا، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من ألف شرح.
تقل مكالماتك الهاتفية، وتزهد النقاشات الطويلة والمجادلات العقيمة.
وقد يظن البعض أنك أصبحت سلبيًا، لكنك تعلم جيدًا أنك فقط أصبحت أكثر وعيًا، وأكثر حرصًا على وقتك وجهدك.

تكتشف أنك أصبحت تميل إلى العزلة من وقتٍ لآخر…
لكنها ليست عزلة هروب، بل عزلة شحن.
تجلس فيها مع نفسك كما يجلس الهاتف على الشاحن، تستعيد طاقتك لتعود إلى الحياة من جديد.
ولأنك نضجت، لم تعد تخشى الوحدة، فقد أصبحت صديقًا لنفسك قبل أي أحد.
تحب أصدقاءك القدامى الذين اجتازوا معك اختبارات العمر، لكنك لم تعد تسمح بسهولة بدخول أحدٍ جديد إلى هذه الدائرة الصغيرة…
فالثقة بعد الأربعين لا تُمنح إلا لمن استحقها فعلًا.

ثم يأتيك الفقد، واحدًا تلو الآخر، فيعلمك ما لم تعلّمه الأيام.
تفقد أبًا حنونًا، أو عمًّا قريبًا، أو جدًّا كان يعشقك، أو صديقًا هاجر ولم يعد.
تتعلّم أن الفراق سنة الحياة، وأن الحنين لا يُشفى، لكنه يُحتمل.
تصبح أكثر تصالحًا مع الرحيل، وأكثر تمسّكًا بمن تبقّى، وتدرك أخيرًا قيمة صلة الرحم ودفء العلاقات التي لا تُعوّض.

وحين تنظر إلى المرآة، لا ترى التجاعيد… بل ترى حكاياتٍ عاشتها ملامحك.
تسأل نفسك بهدوء:
هل مضى نصف العمر؟
هل قدّمت ما يُرضي الله؟
هل كنت كما يجب أن أكون؟
أسئلة كثيرة تتسلل إلى قلبك، لكنها لا تخيفك، بل توقظك.
تجعلك أكثر رغبة في أن تصحّح، في أن تقترب الي الله أكثر، في أن تترك أثرًا طيبًا يذكره الناس بعدك .

لكن تذكّر يا عزيزي…
سن الأربعين ليست بداية النهاية كما يظن البعض، بل هي بداية الوعي الحقيقي.
هي اللحظة التي يتصالح فيها قلبك مع عقلك، وماضيك مع حاضرك.
هي لحظة الإدراك أن العمر ليس ما مضى، بل ما تبقّى لتعيشه بصدق.

ابدأ من جديد… لا تخف.
غيّر ما شئت، وتعلّم ما فاتك، وازرع في طريقك خيرًا يبقى بعدك.
فليس العمر ما يُقاس بالسنين، بل بما تركته من أثرٍ في القلوب.

وما أجمل أن تصل إلى الأربعين، فتفهم أن الله لم يُمهلك عبثًا، بل أحبّك فأعطاك فرصة جديدة لتكون أنت… كما يجب أن تكون.