الأحد 01 يونيو 2025

كان يا ما كان - بقلم عبدالفتاح موسى (سجين الذكريات)

باور بريس

 

من الواضح أنني أُعاني — ككثيرين من أبناء جيلي — من تلك الفطرة الغريبة: الحنين إلى الماضي.
كلما هممت بكتابة شيء جديد، لا أجد أمامي سوى الذكريات تقفز من أعماق الذاكرة، وتفرض نفسها على قلمي دون استئذان.

ها أنا الآن، أمسكت بهاتفي محاولًا أن أكتب مقالًا جديدًا، فوجدتني أعود مرة أخرى إلى الوراء، إلى ما مضى. كما حدث تمامًا في مقالي السابق “جئت من الثمانينات”، إذ لم أجد أمامي حينها إلا كيس “الكراتيه” اللذيذ، وبسكويت “البمبو”، وخمسة وعشرين قرشًا كانت تكفي لصنع حلم، وعشرة جنيهات بدَت كأنها ثروة صغيرة.

تجولت داخل أعماق الذاكرة، فوجدتني أجلس في سيارة “بيجو” سبع راكب، في طريقنا إلى مرسى مطروح، مرورًا بشاطئ “عجيبة للبترول”؛ ضحكات العائلة، أصوات الموج، ورائحة الزمن الجميل.

ولكني سرعان ما توقفت، محاولًا التملص من هذا الحنين الثقيل، بحثًا عن فكرة جديدة لمقالٍ جديد.
وفجأة، اهتزت أذناي  على أنغام قادمة من داخلي، أنغام فيها شجن غريب، وصوت ميادة الحناوي يشدو:
“كان يا ما كان، الحب مالي بيتنا ومدفينا الحنان…”

شعرت بدقات قلبي تتسارع، ودمعة تسقط من عيني، وكأنني سجين الذكريات.
وبدأت الأسئلة تنهال داخلي كالسيل:

لماذا أنا سجين الذكريات؟
هل هي ضغوط الحياة؟
هل لأننا خططنا لأحلام كثيرة، وشاب الشعر، ولم يتحقق منها شيء؟
هل لأنّ بعض الأحبة رحلوا، والبعض الآخر فرّقتنا عنهم الحياة؟
هل لأنني ما زلت أبحث عن “بيت العز يا بيتنا”، وعن أوبريت “الليلة الكبيرة”، وأرفض أن أعترف بأن كل ذلك قد رحل ولن يعود؟

هل هو الشوق؟!
أشتاق لكل شيء…
لصوت أمي وهي تناديني لغداء يوم الجمعة، ولأبناء أختي يمرحون في أرجاء البيت… وكنت مراهقًا لا أحب ضجيجهم.
يا ليتهم يعودون.
أشتاق لرائحة الشاي في المساء، من يد أختي الصغيرة في لحظة رضا، لدفئ ضحكة كانت تسبق الهموم، ولأيامٍ كنا نظنها عابرة… فإذا بها عمرٌ لا يُعوّض.

أشتاق لنفسي حين كنت أصدق أن العالم بسيط، وأن الخير ينتصر، وأن الأحبة لا يرحلون.
كأنني لم أكبر… وما زلت أمدّ يدي نحو زمنٍ مضى، أرجوه أن يعود، ولو في الحلم.

لكن الحلم لا يكفي.
والذاكرة تؤلمني.
و”كان يا ما كان” لم تعد مجرد أغنية… بل صارت قلبي حين كان حيًا.

فليتني أستطيع أن أعود… أو أن أنسى.
لكني لم انسي ولا الزمان عاد.

كبرت الضغوط، وتمزقت عضلة القلب من فرط السعي، ومضى العمر.
لم يبقَ من كل ما كان سوى كلمات أغنية ترددها روحي بحزن:
“الزمان سرق منا فرحتنا، والراحة والأمان… و كان ياما كان "

ملحوظة : هذا الشوق ليس حالة حزن أو عدم رضا عن الواقع، بل الحمد لله ألف مرة على كل نعمة.
إنه شوق لا أستطيع السيطرة عليه، وحالة عميقة لم أستطع الخروج منها بعد.