الأحد 06 يوليو 2025

القاهرة.. حين وُلدت عاصمة التاريخ في قلب الشرق

باور بريس

في السادس من يوليو من عام 969 ميلاديًا لم تكن مصر على موعد مع بناء مدينة جديدة فحسب بل كانت تستقبل عاصمة سيكتب لها الخلود في صفحات التاريخ ويُكتب باسمها مجد حضاري لم ينقطع حتى يومنا هذا إنها القاهرة المدينة التي أنشأها الفاطميون لتكون مركزًا لحكمهم ثم أصبحت لاحقًا قلبًا نابضًا للعالم العربي والإسلامي ومسرحًا لتحولات سياسية وفكرية وثقافية ودينية عميقة.

في أعقاب الفتح الفاطمي لمصر بقيادة القائد جوهر الصقلي شرع هذا القائد العسكري والسياسي البارع في تنفيذ أوامر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بتأسيس عاصمة جديدة شمال الفسطاط عاصمة مصر حينها وكان الهدف من إنشاء المدينة هو أن تكون مقرًا لحكم الدولة الفاطمية الممتدة من شمال إفريقيا حتى الشام على أن تُسمى في بادئ الأمر "المنصورية" تيمنًا بالعاصمة الفاطمية السابقة في تونس.

اختير موقع القاهرة بعناية بين تلال المقطم من الشرق والنيل من الغرب محاطًا بسور دفاعي متين تخللته بوابات ضخمة مثل باب الفتوح وباب زويلة وتم تشييد قصرين ملكيين أحدهما للخليفة والآخر لعائلته يتوسطهما شارع عُرف لاحقًا بـ"بين القصرين".

وفي قلب المدينة أمر جوهر الصقلي ببناء مسجد كبير سيكون له شأن عظيم فيما بعد هو الجامع الأزهر الذي أُسس عام 970م ليصبح منارة للعلم والدين ولا يزال كذلك حتى اليوم بوصفه أقدم جامعة إسلامية مستمرة في العالم.

مع انتقال الخليفة المعز إلى مصر عام 973م أصبحت القاهرة رسميًا عاصمة الدولة الفاطمية وظلت على هذا الوضع حتى بعد زوال الدولة إذ احتفظت بمكانتها تحت حكم الأيوبيين ثم المماليك، والعثمانيين، لتبقى مركزًا للسلطة والثقافة في آنٍ واحد.

وبينما احترقت الفسطاط وتراجعت أهميتها صعدت القاهرة لتُشكل معالم دولة جديدة حيث احتضنت المدارس والكتاتيب والأسواق والقصور والمساجد الكبرى التي باتت علامة مميزة على العمارة الإسلامية من جامع السلطان حسن إلى مسجد محمد علي مرورًا بحارات ومآذن لا تزال شاهدة على تاريخها.

رغم مرور أكثر من ألف عام على تأسيسها لا تزال القاهرة تحتفظ بجزء كبير من إرثها الفاطمي فبواباتها القديمة وأسوارها وآثار قصرها الكبير كلها تعكس عبقرية التخطيط الحضري في العصور الإسلامية المبكرة وتجسّد قدرة الدولة آنذاك على دمج السياسة بالعمران.

أسرار لا تُروى كثيرًا عن ولادة القاهرة

لم يكن تأسيس القاهرة حدثًا عابرًا بل جاء محملًا بطقوس وتفاصيل تُبرز فكر الدولة الفاطمية ونظرتها للسلطة والكون.

فقد استعان جوهر الصقلي بفلكيين لتحديد لحظة فلكية دقيقة لوضع حجر الأساس، حين يتقاطع كوكب "المريخ" المعروف بـ"القاهر" مع برج الأسد في السماء كان الاعتقاد السائد أن تلك اللحظة ستمنح المدينة القوة والغلبة على أعدائها ومنها جاءت التسمية: "القاهرة".

ومن اللافت أن المدينة بُنيت في بدايتها كمقر للنخبة الحاكمة فقط إذ مُنع العامة من السكن فيها واقتصر الدخول على رجال الدولة والجيش والعلماء المقربين من السلطة.
كانت المدينة محصنة بسور ومقسمة إلى أحياء عرقية للجنود القادمين من مناطق مختلفة، مثل البربر، والديالمة، والأمازيغ.

ويُذكر أن شارع "بين القصرين" الذي يفصل بين قصر الخليفة وقصر العائلة لم يكن مجرد ممر بل محورًا رسميًا للمواكب والمراسيم وغطّي بجزء خشبي في بعض الأوقات لحماية المارة من الشمس وكانت هناك منظومة مراسلات داخلية متقدمة تعتمد على الحمام الزاجل والرسل.


وقد أدرجت منظمة اليونسكو أجزاء من "القاهرة التاريخية" ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، نظرًا لقيمتها المعمارية والثقافية الفريدة

ليست القاهرة مجرد مدينة كبيرة بل هي كيان حضاري واجتماعي وإنساني متكامل فهي حاضنة لأكثر من عشرين مليون نسمة ومقر لكبرى مؤسسات الدولة ومركز للإعلام والثقافة والفنون في العالم العربي

ولعل القاهرة تستحق أكثر من مجرد احتفال سنوي بتأسيسها  فهي ذاكرة أمة وصدى حضارة وشاهد عيان على تقلبات قرون ولا تزال حتى اليوم تكتب سطورًا جديدة في كتاب التاريخ بروحها النابضة وناسها المفعمين بالحياة.

في ذكرى تأسيسها نعود بالزمن إلى اللحظة التي وقف فيها الجوهر الصقلي يضع أول حجر في بناء هذه المدينة الخالدة لم يكن يدرك حينها أن ما أسسه سيصمد عبر القرون، ويصبح مرآة لحضارة لا تموت.

في 6 يوليو من كل عام، نحتفل بالقاهرة التي لا تشيخ