الثلاثاء 25 نوفمبر 2025

دكتور عبد الله العوضي يكتب: ستة أيام .. في " موسكو "

باور بريس

 

" موسكو " أعجوبة روسيا الإتحادية و أيقونتها ، و عاصمتها باقتدار  .
هذه أول زيارة عائلية لنا لهذه الدولة التي تتقاطع خطواتها و خطوطها  مع الولايات المتحدة الأميركية في مرتبة العظمة .
هي و الصين تسعيان لتعددية الأقطاب بدل الأحادية الأميركية " المتوحشة " في زمن يبحث فيه العالم عن نظام عالمي عادل مسالم لما حوله ، و  من معه !

موسكو القديمة.. الجديدة

في رحلة سياحية على متن يخت بحري لف بنا حول موسكو المعاصرة حيث الأبراج الشاهقة ذات الهندسة المعمارية الحديثة المبهرة . 
و أثناء عودتنا من الرحلة البحرية، اقترح علينا المرشد السياحي المرافق لنا في جولاتنا أن ندخل إلى بهو الإستقبال في أحد الفنادق الكبرى و لم نعرف الغاية من ذلك، و لم نمانع بالطبع  ، حيث أخذنا أمام مجسمين مختلفين واحد أصغر من الآخر، ثم أشار إلى الأصغر و قال : هذا هو قلعة " الكرملين " و هي موسكو القديمة و كانت كلها في هذه المساحة التي تبلغ قرابة خمسة كيلومترات مربع  . 
ثم انتقل إلى المجسم الهندسي الأكبر و الأضخم قائلا: هذه موسكو اليوم و تبلغ مساحتها 2115 كيلومتر مربع، أي أضعاف مضاعفة من حجم " موسكو الصغيرة " التي يجب أن تبحث عنها بين الزقاق و الطرقات فلا تكاد تبين ، و لكنها حازت في اليونيسكو أعلى درجات التراث العالمي و الحضاري .

العمر .. الحضاري

في تاريخ الحضارات القديمة التي تشمل الحضارة الفرعونية أقدمها ، حيث عمرها الآن أكثر من سبعة آلاف عام ، ثم الحضارة الصينية تقترب من خمسة آلاف سنة ، أما روسيا القيصرية فقد قارب عمرها الألفين عام قبل أن تتحول إلى الإتحاد السوفييتي السابق و من ثم أصبحت الإتحاد الروسي الراهن . " 
هذا الإختزال الحضاري في الزمن و الإنتقال من زمن القياصرة إلى عصر الجمهوريات السوفييتية السابقة و اللاحقة، يمكن قراءته في كتاب " عشرة أيام هزت العالم " لمؤلفه: جون ريد ، و ليس هنا مجال ذكر تفاصيله . 
ورغم تلك التغييرات في مراحل التاريخ الحديث لروسيا الإتحادية ، فهي لا زالت محافظة على عظمة حضارتها التاريخية في كثير من جوانب حياتها المعاصرة .

مكانة .. الكتاب

لأي حضارة عنوان واحد يجمع و يوحد بين الحضارات كلها و هو " الكتاب " ، أين شاهدنا مكانة الكتاب في موسكو ؟! 
لقد سكنا في وسط موسكو في منطقة حيوية اسمها " أرباط الجديدة " و من خلفها " أرباط القديمة " ، لقد كانت سلسلة من المكتبات على امتداد صف الأبراج في ممشى المارة  لا يمكن أن تغفل عنها عين بصيرة و ليست مبصرة فحسب .
هذا المكان اللافت لجمهور كبير لا بد منهم من يدلف إلى تلك المكتبات التي تختلف في محتوياتها عن القرطاسيات التي طغت على وضع المكتبات في بعض الدول  .
و أثناء تجوالنا في بعض المراكز التجارية المشهورة ، لمحنا كذلك سلسلة من المكتبات في ممراتها ، خاصة بالكتب القديمة و المستعملة ، يعاد بيعها بأسعار رمزيّة كجزء من برنامج إعادة تدوير الكتب بدل اتلافها  . 
نفس الفترة ، و في مركز تسوق آخر ، كان أمامنا منظر بهيج لمعرض كتاب ضخم  ، لا يدخلها إلا  من حجز تذكرته على الإنترنت مسبقا  .
ظاهرة ثقافية ، أو فالنقل سياحية ثقافية ممتعة لمن أراد التزود من بحر المعرفة الروسية الشهيرة في " الحرب و السلام " وهي تروي قصة المجتمع الروسي إبان حملات  نابليون على روسيا ، لمؤلفه : ليو تولستوي ، و " الجريمة و العقاب "، لدوستويفيسكي . و " آباء و أبناء "  لإيفان تورجنيف و " الأنفس الميتة " لنيقولاي جوجل ، هذه المجموعة للحصر  ، و من أمثالهم يصعب على العد .

". دودة " .. الكتب

هذا الثراء المعرفي بحاجة إلى مثقفين أشبه ب " دودة الكتب " الذي اشتهر به الحَكم بن عبدالرحمن الناصر آخر عظماء الأمراء بالأندلس ، كان يرسل رسلا إلى كل بقاع الشرق ليبتاعوا له المخطوطات النادرة و يعودوا بها إلى قرطبة ، و كان رسله ينقبون عن الكتب عزيزة المنال عند ورَّاقي القاهرة ، و دمشق ، و بغداد ، و إذا لم يستطع الحصول على كتاب بأي ثمن أمر بنسخه ، و كان يسمع أحيانا بكتاب لا يزال في دماغ مؤلفه ، فيرسل إليه بهدية ثمينة و يسأله أن يبعث بالنسخة الأولى إلى قرطبة ، و قد جمع بهذه الوسائل ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب ، و ذلك في وقت لم تعرف فيه الطباعة ، و حين كان الخطاطون يلاقون عنتا في كتابة الكتب بالخط الواضح الجميل .
و لم يكتف"  الحكم " بالحصول على هذه الكتب ، و لكنه خالف جميع جمَّاعي الكتب بقراءتها جميعا و التعليق عليها ( المصدر بتصرف : ص 221 - 223 / كتاب " قصة العرب في إسبانيا " - ستانلي لين بول : 2022  )

الإعتزاز .. بالنفس

مما لمسناه في الشعب الروسي ، الإعتزاز بالنفس و التعامل مع الزوار و السياح بالتقدير و الإحترام و البعد عن العنصرية .
يفتخر بدولته و بعملتها ، و لا يفضل عليها أي عملة أخرى ، و قد وصلت روسيا إلى مرحلة متقدمة في  معاملاتها التجارية مع بعض الدول بالروبل بدل الدولار الأميركي كالصين و الهند وغيرها .

مدينة .. آمنة

و هناك ملاحظة هامة نلفت النظر إليها ، فمنذ  وصولنا  إلى المطار ، ثم بعد ذلك إلى مقر إقامتنا ، لقرابة ساعة من قيادة السيارة لم نشعر أبدا بأن في الأجواء عمليات حربية تدور رحاها منذ قرابة أربع سنوات بين موسكو وكييف !
خلاف ما تتناقلها بعض وسائل الإعلام و منصات التواصل الاجتماعي التي تتحدث بسلبية قاتمة بل قاتلة للأمل  ؟! 
موسكو كانت هادئة في ثياب السكون و رداء الطمأنينة و سلامة الأمان ، قال مرشدنا تحركوا في هذه المدينة كيفما شئتم و في أي وقت، موسكو ليست أوروبا !

النظافة.. ملفتة

لفتت أنظارنا بريق نظافة المدينة الشاسعة ، و قد صادفتنا خلال فترة تواجدنا أجواء ممطرة ظننا أن أقدامنا سوف تسيخ في برك المياه السطحية التي تغمر الشوارع و ما بين ممرات الأحياء السكنية، إلا أن كل ذاك لم نره ، بل العكس فمجاري مياه الأمطار سالكة و يشاركها مركبات مصممة لشفط المياه كذلك أثناء نزول الأمطار . 
بل أكثر من ذلك ، في الأيام العادية تغسل الشوارع بشكل متواصل ، مثلما  كان  وضع بعض البلدان العربية في القرن التاسع عشر!

" بانكر " .. للوقاية النووية

و من المعالم التي حرصنا على زيارتها " بانكر " و هو عبارة عن ملجأ للوقاية من القنابل النووية ، بني تحت الأرض على عمق 18 عشرة طابقا ، يبلغ سمْك جداره ستة أمتار .
السبب الرئيس لبناء هذا المبنى الضخم هو الحرب العالمية الأولى و الثانية ، و لا ننسى بأن روسيا الإتحاد السوفييتي قد ضحت بقرابة 30 مليون من شعبها جراء تلك الحروب التي كادت نازية هتلر أن تحرق أوروبا بما حوت لولا تدخل الحلفاء .
بعد أن هدأت الحروب فكر " ستالين "في بناء ملجأ ، الهدف الرئيس منه الحفاظ على الروس من الانقراض ، خوفا من اشتعال حرب نووية لا تذر نسلا و لا وصلا .
فشرع في العام 1956 في عملية البناء الذي تم الانتهاء منه في العام 1962 .
نستغرب من عدد سكان هذا الملجأ الفريد في بنائه، فهو يسع فقط ل "  400 - 600 " نسمة ، هؤلاء عليهم 
مسؤولية الحفاظ على العرق السلافي ، إذا ما وقعت الواقعة النووية، التي قاموا بتجريبها علينا في الممرات المظلمة و الضيقة للملجأ .

القنبلة " الذُّرية " !

طبعا لم يقع ما توقعه " ستالين " و لا الحكام التالين ، حتى عهد " بوتين " الذي يفكر اليوم في أن القنبلة " الذُرَّية " أهم لديه من القنبلة " الذَّرية  . 
و في آخر خطاب له بعد انتخابه حتى العام 2028 ، أهم نقطة جوهرية ركز عليه هو تشجيع الشعب الروسي على الإنجاب و لو طفل آخر و ليس أكثر و قد رصد مكافأة سخية لكل مولود ،لكي  يكون عامل قوة للوطن الذي يبلغ مساحته أكثر من 17 مليون كلم مربع، فالإنسان هو العنصر الأساسي لحماية الأوطان و الشعور بالأمان و الحفاظ على أمن الوطن هو الهاجس الوجودي لروسيا منذ عقود .