السبت 11 أكتوبر 2025

عبد الفتاح موسي يكتب: شعر أبيض

باور بريس

 

لم يكن الشعر الأبيض مجرد خيوط تسلّلت إلى رأسي، بل هو شاهد صامت على الأيام والعمر، على ما فات وما مرّ.
ما زلت أتذكر جيدًا يوم اكتشفت أول شعرة بيضاء، وقفت طويلًا أمام المرآة لا أدري: هل هي بشارة وقار ونضج؟ أم إنذار قاسٍ بأن الزمن بدأ يزحف نحوي بلا رحمة؟

ولم تمكث تلك الشعرة وحيدة طويلاً؛ سرعان ما لحقتها الثانية والثالثة، ثم خرج الأمر عن نطاق السيطرة. كنت آنذاك غارقًا في صراعي مع الحياة، أركض لاهثًا خلف البقاء، أعيش معركة أن أكون أو لا أكون، دون أن أمهل نفسي لحظة لأسأل: ماذا أريد أن أكون؟ وهل هذا الذي ضيّعت فيه زهرة شبابي حقًا ما أبتغيه؟
كل ذلك كان يحدث، والزحف الأبيض يتنامى فوق رأسي كساعة رملية معلّقة، تمضي حباتها وأنا غافل.

وفي يومٍ ما، وجدتني مجددًا أمام المرآة. لمحت بقع البياض وقد تمدّدت، كأنها بقع ضوء تكشف ما حاولت إخفاءه.
رغبت أن أصرخ في وجهها: “لماذا جئتِ؟! لم أتجاوز منتصف الثلاثين بعد!”
لكن الخصلات البيضاء لم تُعرني سمعًا، بل راحت تتمدد بصمتٍ عنيد.

ومع مرور السنوات، لم تعد مجرد خصلات متفرقة، بل مساحات واضحة، مناطق بيضاء صارت أكثر حضورًا من سوادها. لم أعد أعدّها، فقد تحولت إلى لوحة معلقة على رأسي، تهمس في أذني: “ها قد مرّ من العمر ما مرّ”.

تملكني حينها ملل عجيب، كأنني في لعبة طويلة لا تُنصف أحدًا. العمر تسلّل من بين يدي كما يتسرّب الماء من بين الأصابع. كنت أرتب أحلامي، أخطّط، أؤجّل… ثم أستيقظ فجأة لأجدني على أعتاب الأربعين، والساعات كأنها سُرقت من عمري خلسة.

ومع ذلك، لا أنكر أن لهذا البياض ثماره الخفية. فقد جلب معه حكمة لم أكن أملكها، صبرًا لم أعرفه من قبل، وهدوءًا في مواجهة الخسارات. بعض الخيبات تحولت إلى دروس، وبعض الانكسارات إلى قوة خافتة تقيم في داخلي. حتى الملل صار معلمًا، يعلّمني متى أترك، ومتى أتمسك.

ولأني دائمًا أصل متأخرًا، راودني الفضول أن أغيّر شكلي، أن ألوّن خيوط الشيب بلمسة صبغة. لكني اكتشفت أن الأمر لم يعد مجرد شعر. فملامحي نفسها خانتني: خطوط حول العينين تفضح السهر، اصفرار في البشرة يحكي عن قلق السنين. الصبغة قد تخفي اللون، لكنها لا تمحو تاريخًا محفورًا على الجبهة.

فقررت أن أترك بعضها، لا استسلامًا، بل اختيارًا. سأدعها شاهدة عليّ، رفيقًا لا عدوًّا، تروي قصص السنين بخيوطها اللامعة. تذكّرني أن الزمن لا يُهزم، وأن الأناقة لا تقف عند حدود الشباب، بل تكتمل في وقار الشعرة البيضاء ولمعتها، في صدق المرء مع نفسه، وفي هدوئه أمام المرايا حين يعترف أخيرًا:
لقد مر العمر، نعم، لكنه لم يسرق حضوري. ما زلت هنا، أرى نفسي أوضح مما كنت، وأدرك أن قيمة الإنسان ليست في عدد السنوات التي عاشها، بل فيما تعلمه وهو يواجه مرورها.