دكتور عبد الله العوضي يكتب: الشيخ زايد .. محطات من وحي الخاطر
البداية.. 1918
نهاية الحرب العالمية الأولى ، و بداية صناعة " الدولة الاتحادية " بولادة الشيخ زايد ، التاريخ مهم و لكن الحدث أهم .
ماذا فقد العالم العربي و الإسلامي آنذاك ؟! فقد .. القائد .. الرمز .. الأيقونة .. البوصلة .. الرؤية .. الحكمة.. الإلهام .. الإنسان صاحب البصيرة المبصرة.. الفطرة السليمة .. الرجل العفوي .
تلك الفترة العالم كله مضطرب ، بسبب الحرب ، بالمقابل كان العالم العربي و الاسلامي أكثر اضطرابا ، بسب الهزات الارتدادية لهذا الزلزال السياسي و الاقتصادي و الإنساني .
و سط هذه البيئة العالمية نشأ الشيخ زايد رحمه الله لمدة ثلاثة عقود في صحراء فتحت عليه آفاق الفكر الذي لا يحدها شيء .
لحظة .. البناء
بعد ثلاثة عقود من التربية المتأنية ، و استلهام التجربة الحياتية ، و النضج العملي ، سئل يوما عن مثله الأعلى في ذلك ، أجاب : ثلاث قدوات أثرت في شخصيته ، الأول سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، و الثاني والدته و الثالث المتنبي .
جاء حكمه لمدينة " العين " تجربة فريدة ، لمدة عشرين عاما ، من 1948 إلى 1968 .
لقد سقى " العين " بماء عينيه ، و حافظ عليها بقوة ساعديه ، عندما شارك الأهالي في حفر الآبار ، حتى تنبع المياه من بين أصابع يديه ، فيشعر آنذاك بسعادة لا تسعها الدنيا .
أثمن شيء عند الشيخ زايد " الماء " شريان الحضارات الإنسانية بلا منازع ، التحدي الاكبر الذي استطاع زايد أن يثقب جداره بجدارة ، و يقلب " مدينة العين " خلاله إلى روضة غناء في زمن قياسي من عمر البناء الحضاري .
ظهر على السطح تجار حاولوا احتكار الماء العذب، فلجأ الناس إلى عدل الشيخ زايد لإنقاذهم من جشع التجار، فأصدر بحكمة عدله وثاقب رؤيته قرارات ثقبت براميل و تناكر المحتكرين، عندما سد هذا الباب بتشريع مجانية الماء الذي منع بيعه بالمطلق، فكم بلغ فرحة الناس آنذاك من هذا القرار المصيري، فزايد قضى عقدين يُحيي مدينة العين بماء الحياة.
زاره خبير غربي قبل اخضرار العين و جريانها ، ناصحا زايدا بالتراجع عن هذه الفكرة المستحيلة ، فلم يعره اهتماما ، بل تحداه قائلا : ارجع إلينا بعد سنوات ، فانظر ماذا ترى ؟!
فعلا عاد الخبير إلى العين ، فاحتاج إلى أربعة أعين مبصرة لكي يدرك و يعي حقيقة ما قام به زايد مما يعد إعجازا و إنجازا بيئيا منقطع النظير فحق بأن ينال لقب رجل البيئة الأول منذ تلك اللحظة التي غاصت يداه في حفر " الشرائع " ، من قبل غرس الفسائل ، التي تحولت في ظرف عقدين إلى عقود خضراء حول رقاب أهل العين جميعا تسر الناظرين .
بين العام. . ( 1948 - 1968 ) كان الشيخ زايد حاكماً لمدينة العين دار الزين. و عرف بصرف ماله الخاص على مدينته ، فإن لم يف ذلك قام بأحسن التدابير للمضي في تغطية الميزانية .
لم يتوقف زايد أيقونة العطاء يوما عن رفاهية شعبه .
بعد انتقاله إلى مرحلة حكم أبوظبي وتوفر المال بين يديه فتح كنز العطاء على شعبه، فبدأ بالأكثر حاجة فدعاهم إلى مجلس عام بعد أن بعث رجال قصره لتفقد أحوالهم، فعندما علم بحقيقة أوضاعهم المادية اجتمع إليهم، فأعطى كل واحد المال الذي يكفيه مؤونة سنة كاملة، حتى وزع عليهم في غضون أسبوع قرابة عشرين مليون دولار و هو مبلغ طائل في حسبة اليوم .
رؤية حضارية
مضت الإمارات في التعامل مع البعد الحضاري، قبل الوصول إلى مرحلة الاتحاد بفترة زمنية طويلة .
بدأ الشيخ زايد أولى مشاريعه الزراعية بالعمل على تجديد أنظمة الري التقليدية لإيمانه التام بقدرة الزراعة على رسم صورة مغايرة لحياة الناس ، وهو صاحب المقولة الشهيرة : «اعطني زراعة.. أعطيك حضارة»
لقد زرع طوال حياته قرابة 150 مليون شجرة وأوصل الإمارات إلى احتواء 20% من نخيل العالم. وهكذا تبينت فلسفة الشيخ زايد التي تركز على أن الإنسان هو العمود الفقري، وهو الأساس الذي يقوم عليه بناء أي حضارة إنسانية، وهو محور كل نهضة حقيقية ومستدامة.
فكر اخترق نفق الزمان منذ أكثر من خمسين عاما و لا زال في تواصل مع الأزمان و المتغيرات .
عشت في العين آنذاك أربع سنوات سمان في «جامعة العين» الإمارات حاليا ، أذهب في لهيب قيظ الصيف بعد العصر إلى حديقة الهيلي للمذاكرة و المدارسة وسط النسيم العليل للحديقة التي تشهد معنا على آثار زايد .
أبوظبي .. و إنقاذ الظبي
الشيخ زايد من العين إلى أبوظبي، حمل معه قصة هذا الماء التي لم تغادر هاجس تفكيره، فليس في العاصمة مجال لحفر الآبار لطبيعة الجزيرة المالحة .
حاكم العين الذي أصبح حاكماً للإمارة كلها وبجزرها المائتين لم يقبل بأن يكون سكانها عطشى، فاتجه بناظريه إلى البحر الذي يحيط بأبوظبي، فلم يقبل لظبائها أن تَنَفق عطشاً، فحول الماء المالح إلى العذب ليزيل السبخ عن جباه الظباء ، هذا هو التحدي الأكبر الذي استطاع زايد التغلب عليه.
في بداية فترة حكمه لأبوظبي ، قام زايد بجولة ميدانية ، فدخل أحد الأحياء السكنية ، فإذا بها غارقة في الماء الهادر من حوله ، فتوقف برهة و هو في أشد حالات الحزن على أمر قد دفع ثمنه من زهرة شبابه أثناء حكمه للعين ، كيف يترك هذا الشأن بلا محاسبة ؟!
لقد بادر بنفسه الإتصال بمسؤول عن هيئة الماء و الكهرباء ، للاستفسار عن سبب هذا الهدر ، فرد بعدم علمه بذلك فحمل نفسه مسرعا من أجل تدارك الأمر فنيا و إداريا .
ترك الشيخ زايد المكان ، و عاد إليه بعد أسبوعين ، فإذا بالوضع أسوأ من السابق ، فعاود الإتصال به معاتبا على استمرار إهماله تجاه ثروة الإمارة المائية ، ثم أمره بترك المكان لمن هو أهل لتحمل المسؤولية الوطنية .
و بتغلب الشيخ زايد على هذا التحدي يتحقق فيه قول " توينبي " أحد أشهر علماء الحضارات : " إن التحدي هو الذي يخلق رجل الأحداث ، و القادة لا يزدهرون في أسهل الظروف ، و إنما - على العكس - يزدهرون في الظروف التي تتحداهم أشد التحدي ، و كلما ازداد التحدي ، صاروا أكثر عظمة ، و الانتصار على الصعاب و العقبات تؤهل لرجال الأحداث تبوأ الزعامة ، ذلك أن الشعوب تعجب بالأعمال قبل الرجال .. و إذا أعجبت بالأعمال فإنها سرعان ما تمنح الرجال الثقة و تعطيهم زمام القيادة "
صادف في أوائل السبعينيات من القرن الماضي أن صديقاً لي كان يعمل في «ورشة» شيوخ آل مكتوم، حيث طلب مني مرافقته إلى أبوظبي لإعادة إحدى سيارات الشيخ راشد، رحمه الله من هناك، فكنت طوع أمره ولي الفخر في ذلك .
ولأول مرة أقطع طريقا لقرابة 130 كيلومتراً وكأنها أطول من ذلك لأنها كانت طريقا متواضعة . ولم تمض سنوات معدودات حتى زانها زايد بغابات ممتدة إلى قلب العاصمة أبوظبي ، فكانت فلسفته في إنعاش الهواء وتبريده و راحة الإنسان العابر من هنا تحت ظلال الأشجار وإطعام الطيور المحلقة في سماء ربها عندما تطير خماصاً وتعود بطاناً.. كل ذلك بفعل إدراك زايد لأهمية الماء الذي كان يزعجه الهدر فيه إلى حد عدم الرضى .
اكسبو 1970 .. مغناطيس اكسبو 2020
و بعد مضي خمس سنوات على حكمه للعين ، و في أول رحلة خارجية له في العام 1953 إلى بريطانيا و فرنسا تأثر بالنهضة الحضارية بعقله و روحه المنفتحة على تجارب الآخرين و أفكارهم ، و أقام على أرض الوطن نهضة تضاهي تلك التي وجدها هناك .
و بما أن الدولة استقبلت اكسبو دبي 2020 ، هذا الملتقى الحضاري العالمي ، فحري بنا أن نؤكد على استمرار نظرة الشيخ زايد نحو هذا الأفق المستقبلي ، عندما شاركت أبوظبي في اكسبو 1970 في اليابان بمدينة أوساكا ، و قد شكل وفدا رفيع المستوى برئاسة سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي آنذاك .
هذا الإدراك المبكر للتواجد في هذا النطاق العالمي ، دلالة فارقة لما ستكون عليه الدولة بعد الوحدة و الإتحاد .
منبع العلم.. و ماء العين
في العام الدراسي 1976/1977 ، تم افتتاح " جامعة العين " النبع الآخر لحضارة الإمارات في بواكير اتحادها ، و أذكر يومها كنت في إدارة البعثات بوزارة التربية و التعليم ، من أجل اتخاذ قرار الابتعاث إما إلى مصر أو الكويت ، و لكن قرار افتتاح " جامعة العين " هو المسار الجميل الذي مضيت إليه بلا تردد ، بل كانت بشارة في الوقت المناسب .
منذ السنة الجامعية الأولى حرص الشيخ زايد على إرسال الطلبة و الطالبات ، أثناء عطلة الصيف إلى شتى دول العالم شرقا و غربا بهدف الإطلاع على المنجزات الحضارية للمجتمعات المتقدمة .
و كنت ضمن المجموعة التي سافرت إلى هولندا و بلجيكا ، و كان زيارة الجامعات على رأس الأولويات في برنامج هذه الرحلة العلمية .
و في الجامعة التي زرناها دخلنا إلى مصنع لصناعة السيارات الكهربائية التي كانت من مشاريع الطلبة آنذاك ، و نتاجها اليوم شاهدة في مختلف إمارات الدولة ، فكر اخترق نفق الزمان منذ أكثر من خمسين عاما ليواصل عطاءه إلى قابل الأزمان .
اللقاء .. الأول
في منتصف السبعينيات طلبنا من رئيس الجامعة آنذاك ، أن يرتب لنا لقاءا مع الوالد الشيخ زايد ، أجابنا : بأنه على استعداد لإيصال مطالبنا إلى سموه .
و لكن الطلبة أصروا على هذا اللقاء التاريخي معه ، من غير حواجز و لا ترجمان من أحد .
عندما علم الشيخ زايد قصدنا من هذا الاجتماع ، قام بزيارة إلى مدينة العين للقاء أبنائه من الطلبة والطالبات .
و في الوقت المحدد قرر الطلبة المشي من الجامعة إلى مقر إقامته في قصر المقام ، لمسافة لا تقل عن عشرين كيلومتر .
و كان يوما عصيبا مليئا برياح سهام مدينة العين الخارقة لمسامات أجسامنا ، و شمسها الحارقة .
و لم يكن الشيخ زايد يعلم بأننا مقبلين عليه راجلين ، و بعد ما عرف علق قائلا : " هذا جنون ، صدق إنهم ما يدرون عن خطورة المشي في هذه الأجواء الصعبة .
هنا تحرك " الإنسان " في الشيخ زايد ، فوجه أوامره لكل الجهات الأمنية بتوفير سيارات مناسبة لتنقلنا عنده في أسرع وقت خوفا علينا من ضربة الشمس لطول الطريق إلى مقر إقامته .
منظر الدخول عليه كان مهيبا ، توقعنا في تصورنا الذهني و مخيلتنا بأنه ملك يجلس على كرسي العرش في قصر مرصع بما غلا ثمنه ، و لكن الواقع الذي رأيناه كان يجلس بكل تواضع على الأرض كما نجلس نحن في بيوتنا على ذات الأثاث التقليدي .
فبدأت راحة أكفنا تصافح قلبه و ليس يده ، و البشارة و البشاشة لا تفارق محياه ، و الفرح و السرور باد على وجهه طوال وقت اللقاء الذي طال .
ترى ماذا كانت مطالب الطلبة من هذا القائد الوالد في تواضعه الجم ؟!
مطلب واحد فحسب،
تخفيض أسعار البترول محليا ، لأنها كانت عبئا على الطلبة الذين يستخدمون مركباتهم الخاصة من الإمارات البعيدة عن مدينة العين .
و قد تحدث الطلبة عن هذا المطلب بصوت واحد ، فرد الشيخ زايد بكلمة واحدة قصيرة : " تم " .
فلم يزد الطلبة عن ذلك ، فهمّوا بمغادرة المكان بعد الاستئذان ، فبادر الشيخ زايد قائلا : قاطعين درب بس لهذا الطلب ، عيالي قولوا لي كل اللي في خاطركم .
جاء الإذن من صاحب الشأن ، فتحدث الجميع مرة واحدة ، و لكن مدير مكتبه تدخل و قال : واحد واحد لو سمحتوا . قاطع الشيخ زايد هذا المسؤول قائلا : عيالي يايين عندي و اللا عندك .
ثم وجه الشيخ زايد كلمته إلى الطلبة قائلا : اختاروا أكبركم سنا ليتحدث عنكم .
دب الهدوء لدى الجميع ، و ساد الصمت و كأنما على رؤوسهم الطير .
فاختار الطلبة طالبا قد عاد إلى الجامعة بعد 16 عام من انتهائه من المرحلة الثانوية، يعني أنه كان مؤهلا و متحدثا مفوها لفارق الخبرة الحياتية .
بدأ حديثه بالثناء على الشيخ زايد و بما يليق بمقامه السامي ، فقال : طال عمرك انت ما قصرت أبدا ، و لكننا نشعر بتقصير بعض المسؤولين و خاصة في المناطق الشمالية التي بحاجة إلى عناية أكثر لبعدها عن المركز .
رد الشيخ زايد قائلا : فالكم طيب و اللي تبونه يصير .
و كانت أصداء الزيارة الاولى ، في اليوم التالي تسد أفق الاعلام الرسمي للدولة ، و كل ما تم تناوله نُفذ عبر الكلمة السحرية " تم “
رجل .. دولة
في مسيرة التاريخ مرت الدول بموجات صعود و هبوط اضطرارية ، و لكنها صادمة لحركتها و معوقة لتطورها و نمائها .
تدحرجت و انهارت عروش ، و ذلك اختبار صعب و امتحان معقد لمعرفة الفرق بين رجل دولة و رجل يحرق دولة .
متى يقع هذا الخلل ؟! عندما يصبح الفرد هو الدولة و هي في خدمته ، و لا يغيب عنا هنا من حِكم الوالد الشيخ زايد رحمه الله عندما سئل عن قيمة ووزن رجل الدولة ، فقال : لو كان الرجال يشترون لما استكثرت عليهم المال .
و لكن زايد رحمه الله صنعهم صناعة كما صنع دولة اتحادية ، ترى مئويتها بين عيني من خلفه قادة عظام ورثوا رؤيته و أقروا عينه .
و من مقولات الشيخ زايد التي رسخت هذا المفهوم " الولاء على قدر العطاء "
في الفترة الأولى من تأسيس الدولة هاجرت بعض القبائل من الدولة الفتية إلى دول أخرى مجاورة ، فقط ، لأن زايد لم يكن لديه سعة " العطاء " التي تغني القبائل ، و كان يؤمِّلهم قائلا : هذا وطنكم و ستعودون إلى حضنه في المستقبل القريب ، فقلوبنا مفتوحه لكم قبل أراضينا .
لم تمر سنوات قليلة حتى هجت ذات القبائل للرجوع و أكثر ، فصدقت مقولة الشيخ زايد فيهم .
دبلوماسية.. القبائل
بعد عشرين عام من تجربة الحكم في مدينة العين ، دخل زايد معتركا عظيما لحكم أبوظبي ، لقد كبر حجم المسؤولية لديه أكثر لأن عقله انشغل في قضية أكبر من حكم أبوطبي وحدها .
الإتحاد و الوحدة و التكامل الوثيق بين الإمارات المتفرقة و إن كانت " متصالحة " في النسيج الاجتماعي .
سياسة التوحيد بين القبائل ، ليست كالتوحيد بين الدول ، الفروقات بين النهجين شاسعة و معقدة في التفاصيل ، إلا أن كل ذلك لم يفت في عضده .
منذ توليه حكم أبوظبي في العام 1968 و حتى العام 1971 ، كان " الإتحاد " شغله الشاغل و همه الظاهر ، و قد زار شيوخ الإمارات المتصالحة ، يعرض عليهم فكرة الإتحاد و وحدة القلوب ، دون ضغط و لا إجبار أو إكراه ، و قد سمى أحد الغربيين هذا السعي الدؤوب ب" الدبلوماسية القبلية أو دبلوماسية الصحراء " الى أن تمكن الشيخ زايد من خلالها توحيد القبائل تحت راية الإتحاد و هذا هو سر النجاح المستمر في جذور ذريته .
و قد تُوجت هذه الدبلوماسية الرشيدة في 2/12/1971 ، دولة اتحادية اخترقت التاريخ و اختزلت المسافات و أحرقت مراحل الزمن في سرعة مدروسة و محسوبة خطواتها للدخول إلى ميدان السباق الحضاري الذي نجني اليوم ثمار مئويتها .
نقول للتاريخ بأن حكمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله أنارت السبل نحو تحقيق الاتحاد الحلم ، الذي شغل تدشينه تفكير زايد من أجل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، هذه البقعة من الأرض التي ستغير وجه التاريخ العربي من جديد، وهذا ما تحقق بصحوة القائد زايد.
التأسيس.. خطوات عملية
فكرة الاتحاد التي خامرت عقل الشيخ زايد ووثوقه من أن الأحلام سوف تتحقق في يوم ما , ولم تمض على هذا الشعور سنوات حتى دخلنا العام 1968 ، حيث بالفعل وليس بالقول بدأت الاحلام تتحقق مع انطلاقة السادس من اغسطس من ذلك العام, الذي يعتبر بحق صفحة مشرقة في تاريخ دولة الامارات الحديث, حيث أكد الشيخ زايد بهذا الصدد على تحقيق الهدف الاول من توليه سدة الحكم في إمارة أبوظبي قائلا: (لا فائدة للمال اذا لم يسخر لصالح الشعب) .
إن الايمان العميق بالوحدة عن طريق الاتحاد كان متأصلا في قرارة نفسه مذ كان حاكما على العين في بدايات عام 1948, حيث بادر وبعد عشرين عاما من تقلب الامور ووجهات النظر, بالدعوة الى الاتحاد بين امارات الدولة مؤكدا بقوله: ( إن الإتحاد هو طريق القوة وطريق العزة والمنعة والخير المشترك و أن الفرقة لا ينتج عنها إلا الضعف.. و أن الكيانات الهزيلة لا مكان لها في عالم اليوم.. فتلك هي عبر التاريخ على امتداد عصوره) .
بعد هذه المدة الطويلة والممتدة بين عامي 1948 - 1968 ، سارع القائد الفذ الى القيام فورا بزيارة لأخيه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي في 18 فبراير من عام 1968, حيث بحثا إقامة إتحاد بين الإمارتين يقوم بالإشراف على الشئون الخارجية والدفاع و الأمن الداخلي والخدمات الصحية والتعليمية. وهذا البحث العملي في ضرورة انشاء كيان وحدوي ولو بين إمارتين في البداية كان له دلالة مؤثرة في تحريك الإمارات الأخرى نحو هذا الإتجاه حتى لا تبقى في عزلة عن هذا الشأن الذي يهم كل الإمارات المتصالحة في ذلك الوقت وليس أبوظبي و دبي فحسب.
من هنا لم يتم إغفال البقية من أول لقاء هام وحاسم بين الإمارتين وعليه اتفقا أيضا على دعوة أصحاب السمو حكام الإمارات الامارات العربية للإجتماع في إمارة دبي لمناقشة توسيع دائرة الإتحاد أكبر قدر ممكن والحث على قيام اتحاد تساعي, يسع الآخرين ولا يقتصر على إمارتين .
فكان الإقتراح آنذاك أن يتشكل هذا الإتحاد التساعي من إمارة أبوظبي ، دبي, الشارقة, رأس الخيمة, عجمان, أم القيوين ، الفجيرة, إضافة إلى قطر والبحرين.
وهو ما أكد عليه آنذاك الشيخ زايد بقوله: ( إن قيام الإتحاد ضرورة قومية, فهو يؤمن الإستقرار والأمن, ثم أنه سيكون عونا وسندا لأشقائنا العرب و أصدقائنا في العالم ) .
فمنطلق التفكير لم يكن اقليميا بحتا لأن سعة أفقه كان أكبر من تلك النظرة الضيقة لأنه أراد بهذا الكيان أن يكون عونا لإخوانه العرب دون أن يستثني الأصدقاء في جميع أنحاء العالم, إنها نظرة عالمية ساعدت الدولة كثيرا لكي تتبوأ مكانة تليق بشأنها الحقيقي ووزنها الحضاري أمام الأمم الأخرى التي ما فتئت من الإشادة بهذا التفكير الواعي لمتطلبات المستقبل منذ عهد مبكر جدا من عمر الإتحاد .
وبعد هذه الدعوة التساعية لم تتوقف الاجتماعات بين جميع الاطراف في هذا العقد الذي ينتظر زمن وصوله إلى صيغة للعهد و الإلتزام الأدبي قبل القانوني أو الدستوري, فاستمرت الاجتماعات تلو الأخرى طوال الأعوام الممتدة من بدايات عام 1968م وحتى مطلع فجر السبعينيات حيث أدلى الشيخ زايد بحديث لصحيفة ( الأهرام ) المصرية في 7 ابريل 1971م قائلا: (إن روح الجماعة والتعاون الصادق هما أساس نجاح الجهود الإتحادية .. و أن الجميع يؤمنون بالهدف الواحد وستنتصر رابطة الأخوة على أية مشكلة ) .
لقد ضرب القائد زايد على الوتر الحساس للقلوب التي تريد أن ترتبط حول عظائم الأمور وليس صغائرها ، لذا كانت الأخوة هي المقدمة الحقيقية للتغلب على أية مشكلة يمكن أن تواجه قيام الإتحاد .
كنا واعين .. و مدركين
في العام 1971 ، أين موقعنا في هذه الدولة الفتية والحديثة ، التي أخذت مكانتها سريعا في أحاديث الناس ، و العالم من حولنا .
كنت و جيلي في المرحلة الإعدادية من السلم التعليمي ، أي كنا واعين لهذا الحدث التاريخي ، و خاصة عندما قرر الشيخ زايد منح مكافأة شهرية لجميع الطلبة المواطنين ، بمبلغ قدره ثلاثة مائة درهم .
قد يستقل البعض هذا المبلغ ، و لكني أقول ، بأن هذا المال كاد يقترب من دخل آبائنا الشهري في ذلك الوقت .
و هو يعني من الناحية الانسانية التخفيف عن كاهل رب الأسرة في الصرف على معيشتها ، و هذا البعد فيه حماية الأسر من الوقوع في براثن الفقر و التخفيف من غلوائها و معاناتها .
المادة بحد ذاتها لم تكن الهدف ، بل الأثر الاجتماعي ، و الرفاه المجتمعي هو الأهم .
نمى إلى " الإنسان " في الشيخ زايد ، بأن الطلبة المقيمين لم ينلهم هذا الخير الممتد من يد بيضاء لم تخش من العوز ، فلم ينتظر ومضة من الوقت ، حتى وصل عطاء سموه إلى بقية الطلاب بغض النظر عن أعراقهم و جنسياتهم و فصائلهم ، فكلهم كتب الله أرزاقهم هنا في هذه الأرض المعطاء .
هذا البعد الإنساني استمر معنا حتى تخرجنا من جامعة " العين " الإمارات الآن ، بل في الجامعة كان الشيخ زايد يرعى فسائلها و يسقيها بنفسه ، لقد وضع مكافأة إضافية غير الشهري لكل طالب ينهي كل فصل دراسي بدرجة الامتياز و بفضل من الله كنت أحد هؤلاء مبلغ ألف و خمسمائة درهم ، إلى أن تخرجت في 15/1/1981، في ثلاث سنوات و نصف ، بسبب الدراسة الصيفية ، و في حفل التخرج استلم كل طالب و طالبة خمسين ألف درهم هدية الشيخ زايد للدفعة الأولى من طلبة الجامعة .
للخير.. امتداد
هذا التوجه في عمومية الخير للبشرية كافة هو الذي أسس الشيخ زايد بنيان الدولة عليه منذ كان حجم الموارد محدودة ، كان خير زايد عبر يده البيضاء تقطع الجبال و القفار للوصول إلى المستحق و لو في الأدغال .
من ذلك ، كنا في زيارة رسمية إلى تايلاند و كان من ضمن البرنامج زيارة المفتي هناك الذي يسكن في الغابات بالقرب من حدود دولة فطاني .
عند وصولنا إلى منزله المتواضع ، و بعد الترحيب ، طرح علينا سؤالا واحدا لا غير ، ماذا رأيتم و أنتم في الطريق إلي ؟ قلنا هيكل مبنى قيد البناء . فأجاب : هذا المبنى مسجد قيد الإنشاء من بياض يد الشيخ زايد قد سبقكم حيث أنتم ، لقد سبق خير زايد الخير نفسه ، و ها أنتم أبناؤه لا علم لكم بذلك لقد سبقت يمينه شماله في الخير دون علم إحداهما بالأخرى .