الأربعاء 24 ديسمبر 2025

دكتور ياسر بغدادي يكتب:لماذا أصبح الدمج ضرورة وجودية لشركات الطاقة العالمية؟

باور بريس

شهد قطاع البترول، الذي يعد شريان الاقتصاد العالمي وأحد أعمدة التنمية المحلية، تحولات هيكلية جذرية في الآونة الأخيرة، لعل أبرزها موجة دمج الشركات الكبرى والصغرى. هذه الخطوة الاستراتيجية لا تمثل مجرد إعادة ترتيب إداري، بل هي استجابة حتمية لمتطلبات السوق المتغيرة، وارتفاع التكاليف التشغيلية، وضرورة تعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة في ظل التقلبات المستمرة لأسعار الطاقة.  


التوجهات العالمية لعمليات دمج الشركات في قطاع الطاقة: مشهد صناعي يعاد تشكيله

يشهد قطاع الطاقة العالمي تحولاً واسعاً يعيد رسم خريطته الاستراتيجية، مدفوعاً بتقلبات الأسواق، ومتطلبات التحول نحو الطاقة منخفضة الكربون، وتزايد الحاجة إلى بناء كيانات أكثر قدرة على المنافسة والاستدامة. وفي ظل هذه المتغيرات، أصبحت عمليات الاندماج والاستحواذ إحدى الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها الشركات لتعزيز مراكزها، وتحسين كفاءتها التشغيلية، وتوسيع انتشارها الجغرافي، وإعادة صياغة سلاسل القيمة في النفط والغاز والتكرير والبتروكيماويات والطاقة الجديدة.

على مدار العقدين الماضيين، شهد قطاع الطاقة سلسلة من عمليات الاندماج الضخمة التي شكلت محطات تحول مهمة في بنية الصناعة. فقد جاء اندماج Exxon مع Mobil عام 1999 ليؤسس أحد أكبر الكيانات النفطية في التاريخ الحديث، تلاه اندماج Chevron مع Texaco في عام 2001 ضمن صفقة بلغت قيمتها نحو 45 مليار دولار، مما عزز قدرة الشركة الجديدة على المنافسة في سوق يتغير بسرعة. كما قامت شركة Total بتنفيذ سلسلة من الاستحواذات الاستراتيجية، أبرزها الاستحواذ على Elf ثم لاحقاً على Fina في إطار خطتها للتوسع في أوروبا وأفريقيا. وفي عام 2016، نفذت Shell واحدة من أكبر صفقات القطاع عبر الاستحواذ على BG Group مقابل نحو 70 مليار دولار، بهدف تعزيز حضورها في سوق الغاز الطبيعي المسال وتوسيع محفظتها الاستثمارية عالمياً.

لقد مهدت هذه الصفقات الكبرى الطريق لتوجه عالمي جديد يعتمد على بناء شركات طاقة عملاقة تمتلك قدرات مالية وتقنية كبيرة، بما يتيح لها مواجهة التحديات التنظيمية والاقتصادية والبيئية في مرحلة تشهد تحولاً جوهرياً في أنماط استهلاك الطاقة وتوجهات الأسواق.

وفي السنوات الأخيرة، أصبح التحول الطاقي أحد أبرز المحركات الدافعة لعمليات الاندماج، خصوصاً مع التراجع المتوقع في الطلب على الغازلين " البنزين" والديزل نتيجة سياسات الحياد الكربوني والتوسع في استخدام السيارات الكهربائية عالمياً. وقد دفع ذلك العديد من شركات التكرير إلى تعزيز التكامل مع صناعة البتروكيماويات لضمان استدامة معدلات التشغيل وتعظيم الاستفادة من كل برميل نفط، عبر تحويل نسبة أكبر من الخام إلى مواد كيميائية وبلاستيكية تحقق نمواً أسرع وهوامش ربح أعلى مقارنة بمنتجات الوقود.

كما تتيح عمليات الاندماج للشركات تحسين الكفاءة التشغيلية، وتخفيض التكاليف من خلال توحيد سلاسل الإمداد، والاستفادة من القدرات المشتركة في التسويق والبحث والتطوير، إضافة إلى توظيف الطاقات الإدارية والمهارية المتوفرة في الشركات المندمجة لبناء هياكل مؤسسية أكثر قوة ومرونة، وتعزيز ثقافة العمل والابتكار، وتسريع خطط التوسع.

شهدت المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة سلسلة من التحولات الهيكلية في قطاع الطاقة، جاءت في سياق عالمي يتجه نحو بناء كيانات أكبر وأكثر تكاملاً وقدرة على المنافسة. وكانت المملكة العربية السعودية من أوائل الدول التي اتخذت خطوات كبرى في هذا المسار، إذ شكّل استحواذ شركة أرامكو عام 2020 على نسبة 70% من أسهم سابك نقطة تحول مفصلية أسست لقيام أكبر كيان متكامل للتكرير والبتروكيماويات في العالم. وقد مهدت هذه الصفقة الطريق أمام أرامكو للتوسع في أنشطة الكيميائيات، سواء عبر زيادة حصصها في المشروعات المشتركة في آسيا وأمريكا، أو عبر تطوير تقنيات تحويل النفط الخام إلى مواد كيميائية دعماً لخطتها برفع نسب التحويل بحلول عام 2030، الأمر الذي عزز موقع المملكة كأحد أهم اللاعبين في إعادة رسم سلاسل القيمة العالمية للطاقة.

أما في دولة الكويت، فقد اتجهت الدولة خلال السنوات الماضية إلى تنفيذ عملية إعادة هيكلة تدريجية لقطاع الطاقة بهدف تعزيز التكامل بين الشركات التابعة لمؤسسة البترول الكويتية، ورفع كفاءة التشغيل وتقليل الازدواجية. وفي عام 2017، تم توحيد عمليات مصافي الأحمدي وميناء عبد الله والشعيبة تحت مظلة شركة البترول الوطنية الكويتية، وهو تطور محوري ساهم في تحسين التكامل التشغيلي، ورفع كفاءة منظومة التكرير، ولا سيما بالتزامن مع تنفيذ مشروع الوقود البيئي الذي يعد من أكبر مشاريع تحديث المصافي في المنطقة.

كما واصلت الكويت تعزيز التكامل بين أنشطة الغاز والبتروكيماويات من خلال التعاون بين شركة الكويت للصناعات البترولية المتكاملة (KIPIC) وشركة صناعة الكيماويات البترولية (PIC) ضمن مشروع مجمع الزور المتكامل، الذي يجمع بين المصفاة الضخمة، ومرافق استيراد الغاز المسال LNG، والمشروع البتروكيماوي المزمع تطويره. ويمثل هذا التوجه خطوة مهمة نحو بناء منظومة صناعية أكثر ترابطاً وقدرة على المنافسة، ويعكس انتقال الكويت من نموذج الفصل التقليدي بين الأنشطة إلى نموذج التكامل الصناعي المتقدم.

وفي عام 2018، شهدت دولة قطر واحدة من أبرز عمليات الاندماج في قطاع الغاز، وذلك بتوحيد شركتي "قطر غاز" و "راس غاز" تحت كيان واحد هو "قطرغاز" بقيادة قطر للطاقة. وقد مثّل هذا الدمج خطوة استراتيجية كبرى أتاحت رفع الكفاءة التشغيلية، وتخفيض التكاليف، وتوحيد إدارة أكبر منظومة للغاز الطبيعي المسال في العالم، مما عزز موقع قطر الريادي في سوق الغاز الطبيعي المسال عالمياً.

أما سلطنة عُمان، فقد اتخذت في عام 2019 خطوة بارزة بإتمام الاندماج بين شركة Orpic وشركة النفط العُمانية لتأسيس مجموعة  OQ، التي أصبحت كياناً متكاملاً في التكرير والبتروكيماويات والطاقة. وقد أدى هذا الاندماج إلى توحيد عمليات عدة منشآت صناعية في إطار تنظيمي واحد، وتعزيز القدرة الاستثمارية للمجموعة، وإطلاق مشروعات استراتيجية، من أبرزها مشروع “ليوا للمنتجات البلاستيكية”، الذي يمثل واحداً من أهم مشاريع الصناعات التحويلية في المنطقة.

وفي عام 2025، أعلنت دولة الإمارات عن واحدة من أكبر عمليات الدمج الجارية حالياً في صناعة البتروكيماويات، إذ كشفت كل من أدنوك وOMV  في أبريل 2025 عن خطة لدمج شركتي Borouge وBorealis  في كيان عالمي مشترك يحمل اسم Borouge Group International. ومن المتوقع اكتمال الدمج في الربع الأول من 2026، لتصبح المجموعة رابع أكبر منتج للبوليمرات في العالم بطاقة تصل إلى 13.6 مليون طن سنوياً وحضور جغرافي واسع يمتد بين الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية، بما يجسد رؤية الإمارات لبناء منصة صناعية ذات تأثير عالمي في مجال المواد المتقدمة.

وفي جمهورية مصر، تتواصل الجهود منذ عام 2023 لإعادة هيكلة القطاع ورفع كفاءته التشغيلية عبر دمج الشركات ذات الأنشطة المتكاملة أو المتشابهة. ويبرز في هذا السياق التوجه لدمج شركتي سيدبك وإيثيدكو في كيان واحد لتعزيز التكامل بين إنتاج البولي إيثيلين والمواد الأولية، إلى جانب دراسات لدمج شركتي خالدة وقارون للبترول بهدف تحسين كفاءة عمليات الاستكشاف والإنتاج في الصحراء الغربية وخفض النفقات. وتمثل هذه الإجراءات جزءاً من استراتيجية وطنية تستهدف بناء شركات أكثر قوة وقدرة على مواجهة التقلبات العالمية، والاستفادة القصوى من الطاقات الفنية والإدارية والمهارية داخل القطاع. وإلى جانب هذه الخطوات، تبرز فرص إضافية لتعزيز التكامل عبر دمج شركات التسويق للمنتجات البترولية وشركات التوزيع والنقل، بما يسهم في رفع كفاءة منظومة تداول المنتجات، وتقليل الفاقد، وتحسين إدارة سلاسل الإمداد، وتعظيم القيمة المضافة للاقتصاد.

ومن خلال هذا المسار التاريخي الممتد على مدى عقود، يتضح أن  الدول العربية  تسير بخطى ثابتة نحو إعادة تشكيل قطاع الطاقة عبر عمليات دمج واسعة، أو من خلال إعادة هيكلة شاملة تعزز التكامل بين التكرير والبتروكيماويات والغاز والصناعات التحويلية. وقد أظهرت التجارب أن هذه الخطوات أسهمت في تعزيز القدرة التنافسية، وتخفيض التكاليف، وتوسيع حضور الشركات إقليمياً وعالمياً، إلى جانب تحسين الاستفادة من القدرات البشرية والإدارية، وتطوير نماذج أعمال أكثر قدرة على مواجهة التحول الطاقي العالمي.