الجمعة 06 يونيو 2025

عبدالفتاح موسى يكتب: جئت من الثمانينات

باور بريس

 

في لحظة عابرة من أيام الحياة السريعة، قادتني الحاجة لاستخراج بعض الأوراق من كليتي القديمة.
وكأن الزمن استدار فجأة، ووجدت نفسي أسير في طرقات عبرتها قبل عشرين عامًا. لم تكن مجرد زيارة، بل كانت رحلة إلى الذات… إلى ما كنت قبل عشرين عاما.

دخلت مبنى شئون الخريجين، وهناك سألتني الموظفة عن سنة التخرج، فأجبتها ليس فقط بالسنة، بل برقمي الجامعي أيضًا، كأن الذاكرة كانت تنتظر لحظة استدعاء،لحظة جعلتني أدرك أن التفاصيل لا تموت… وأن في عقولنا غرفة لم تُغلق يومًا على كل ما عشناه.

طلبت مني صورًا فوتوغرافية، ولم تكن معي. ففرحت. نعم فرحت، لأن ذلك يعني أنني سأعود إلى هنا مرة أخرى… إلى المكان، وربما إلى الذكرى.

خرجت إلى السيارة، ولم أقاوم رغبة دفينة في تشغيل ألبوم عمرو دياب لعام 2004. كانت تلك الأغاني رفيقة الكثير منا  في الجامعة، حين كانت الدنيا أبطأ، والقلوب أدفأ، والأحلام أبسط. 
ومع كل نغمة كنت أعود خطوة إلى الوراء… إلى صداقات صافية، وضحكات صادقة، وخيالات لم تلوثها واقعية الحياة.

وفي اليوم التالي، وجدتني أعود مرة أخرى، ليس من أجل الورق، بل من أجل النفس. سرت في الطرقات ذاتها، باحثًا عن وجه مألوف… عن صديق، عن أستاذ، عن ظلٍ من ماضٍ جميل… لكن لم أجد أحدًا. وجدتني فقط. جلست على مقعد خشبي قديم، تنفست بعمق، وسألت نفسي:
هل أبحث عنهم؟ أم أبحث عني؟
عن الشاب الذي كنت هو؟ عن النسخة التي ضاعت بين زحام الأيام ومسئوليات الحياة؟

هنا طُرحت أمامي حقيقة لا أهرب منها:
نحن جيل ولد في زمن دافئ، لكنه كبر في عالم بارد.
جيل رأى كل شيء يتغير… العادات، التفاصيل، القيم، وحتى الأحلام.

لماذا نشعر نحن، مواليد الثمانينات، بهذا الحنين العميق؟
ربما لأننا الجيل الذي عَبَر بين عالمين… جيل تنفس دفء الأسرة الحقيقية، قبل أن تتحوّل المجالس إلى رسائل صوتية، والحكايات إلى “حالات واتساب”.
ربما لأننا كبرنا على ذكريات لم نُمنح فرصة الحفاظ عليها. فقدنا تدريجيًا وجوه الأحباب، وملامح الأماكن، وسرعة الزمن أخذت كل شيء دون أن تُمهلنا لنلتقط أنفاسنا.

نحن أبناء الثمانينات… جيل تربّى على صوت فيروز في الصباح، ومجلات “ماجد” و”ميكي” في الظهيرة، وأغاني الكاسيت في المساء.
جيل لم يعرف الرفاهية الرقمية، لكنه عرف دفء التفاصيل: “أتوبيس المدرسة”، و”اللمة على العشاء”، و”الكورة في الشارع ”، و”التليفون الأرضي الذي يقاس عليه الحب”.

سؤال الحنين لا يفارقنا… لأنه لا مفر من الحنين، حين تعيش في زمن لا يشبهك.
نحن لم نكبر فقط… نحن تغيّرنا لأن الحياة لم تترك لنا خيارًا.
لكن، في أعماقنا، لا يزال هناك طفل يحن إلى “جمعة الأصدقاء”، ودفء “الحوش”، وصوت أم تنادي من المطبخ: “الأكل جاهز”.

نحن أبناء الثمانينات…
الجيل الذي سقط إلى أعلى.
الذي خسر ماضيه، ولم يجد لنفسه حاضرًا يشبهه.
الذي يتنفس الحنين… لأنه الشيء الوحيد الذي لم تُغيّره الحياة.

ورغم كل هذا…
نحن لا نطلب رجوع الزمن، ولا نناشد الأيام أن تعود، فنحن نعرف أن العقارب لا تمشي للخلف.
كل ما نريده، أن يتذكّرنا العالم كما كنا:
جيلًا عاش النصف الأول من عمره بقلب طفل، والنصف الثاني بعقل كهل.
جيلًا لم يمنحه الزمن فرصة الرفاهية، لكنه عرف قيمة التفاصيل، والحب، والانتماء.